رقم العضوية : 2عدد المساهمات : 43تاريخ التسجيل : 05/11/2010
موضوع: بناء الكعبه السبت يوليو 02, 2011 7:13 pm
بناء البيت
لما بلغ سنه عليه الصلاة والسلام خمساً وثلاثين سنة، جاء سيل جارف فصدَّع جدران الكعبة بعد توهينها من حريق كان أصابها قبل، فأرادت قريش هدمها ليرفعوها ويسقفوها، فإنها كانت رضيمة فوق القامة، فاجتمعت قبائلهم لذلك، ولكنهم هابوا هدمها لمكانها في قلوبهم. فقال لهم الوليدبن المغيرة: أتريدون بهدمها الإصلاح أم الإساءة؟ قالوا: بل الإصلاح، قال: إن الله لا يهلك المُصلِحين، وشرع يهدم فتبعوه وهدموا حتى وصلوا إلى أساس إسماعيل، وهناك وجدوا صِحافاً نُقش فيها كثير من الحِكَم على عادة مَنْ يضعون أساس بناء شهير ليكون تذكرة للمتأخرين بعمل المتقدمين. ثم ابتدؤوا في البناء وأعدّوا لذلك نفقة ليس فيها مَهرُ بغيَ ولا بيعُ رِبا، وجعل الأشراف من قريش يحملون الحجارة على أعناقهم، وكان العباس ورسول الله فيمن يحمل، وكان الذي يلي البناء نجار رومي اسمه باقوم، وقد خصّص لكل ركن جماعة من العظماء ينقلون إليه الحجارة، وقد ضاقت بهم النفقة الطيبة عن إتمامه على قواعد إسماعيل، فأخرجوا منها الحِجْرَ، وبنوا عليه جداراً قصيراً، علامة على أنه من الكعبة، ولما تم البناء ثمانية عشر ذراعاً بحيث زِيدَ فيه عن أصله تسعة أذرع ورفع الباب عن الأرض بحيث لا يُصعد إليه إلا بدرج أرادوا وضع الحجر الأسود موضعه، فاختلف أشرافهم فيمن يضعه، وتنافسوا في ذلك حتى كادت تشبّ بينهم نار الحرب، ودام بينهم هذا الخصام أربع ليالٍ، وكان أسنّ رجل في قريش إذ ذاك أبو أميةبن المغيرة المخزومي عمُّ خالدبن الوليد فقال لهم: يا قوم لا تختلفوا وحكِّموا بينكم من ترضون بحكمه. فقالوا: نَكِلُ الأمر لأوّل داخل، فكان هذا الداخل هو الأمين المأمون عليه الصلاة والسلام، فاطمأن الجميع له لِمَا يعهدونه فيه من الأمانة وصدق الحديث وقالوا: هذا الأمين رضيناه، هذا محمد؛ لأنهم كانوا يتحاكمون إليه إذ كان لا يُداري ولا يُماري. فلما أخبروه الخبر بسط رداءه وقال: لتأخذ كل قبيلة بناحية
من الثوب، ثم وضع فيه الحجر وأمرهم برفعه حتى انتهوا إلى موضعه فأخذه ووضعه فيه وهكذا انتهت هذه المشكلة التي كثيراً ما يكون أمثالها سبباً في انتشار حروب هائلة بين العرب، لولا أن مَنَّ الله عليهم بعاقل مثل أبي أمية يرشدهم إلى الخير، وحكيم مثل الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بما يُرضي جميعهم. ولا يُستغرب من قريش تنافسهم هذا، لأن البيت قِبلَة العرب وكعبتهم التي يحجّون إليها، فكل عمل فيه عظيم به الفخر والسيادة، وهو أول بيت وُضِع للعبادة بشهادة القرآن الكريم، قال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْراهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً} (آل عمران: 96، 97) وكان يلي أمره بعد ولد إسماعيل قبيلة جُرهم فلما بَغوا وظلموا مَنْ دخل مكة اجتمعت عليهم خزاعة وأجلَوهم عن البيت، ووليته خزاعة حيناً من الدهر، ثم أخذته منهم في عهد قصيبن كلاب، وبسببه أمِنوا في بلادهم، فكانت قبائل العرب تهابهم، وإذا احتموا به كان حصناً أميناً من اعتداء العادين، وامتنّ الله عليهم بذلك في تنزيله، فقال في سورة العنكبوت: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} (العنكبوت: 67).
معيشته عليه الصلاة والسلام قبل البعثة
لم يَرث عليه الصلاة والسلام من والده شيئاً، بل ولد يتيماً عائلاً فاسترضع في بني سعد، ولما بلغ مبلغاً يمكِّنه أن يعمل عملاً كان يرعى الغنم مع إخوته من الرضاع في البادية، وكذلك لمّا رجع إلى مكة كان يرعاها لأهلها على قراريط كما ذكر ذلك البخاري في صحيحه. ووجود الأنبياء في حال التجرد عن الدنيا ومشاغلها أمر لا بدّ منه، لأنهم لو وجدوا أغنياء لألهتهم الدنيا وشغلوا بها عن السعادة الأبدية، ولذلك ترى جميع الشرائع الإلهية متفقة على استحسان الزهد فيها والتباعد عنها، وحال الأنبياء السالِفين أعظمُ شاهد على ذلك، فكان عيسى عليه السلام أزهدَ الناس في الدنيا، وكذلك كان موسى، وإبراهيم. وكانت حالتهم في صغرهم ليست سَعَة بل كلهم سَواء؛ تلك حكمة بالغة أظهرها الله على أنبيائه ليكونوا نموذجاً لمتبعيهم في الامتناع عن التكالب على الدنيا والتهافت عليها، وذلك سبب البلايا والمحن. وكذلك رعاية الغنم، فما من نبي إلا رعاها كما أخبر عن ذلك الصادق المصدوق في حديث للبخاري. وهذه أيضاً من بالغ الحِكَم فإن الإنسان إذا استرعى الغنم ــــ وهي أضعف البهائم ــــ سكن قلبَه الرأفةُ واللطفُ تعطفاً، فإذا انتقل من ذلك إلى رعاية الخلق كان لما هُذِّب أولاً من الحدة الطبيعية والظلم الغريزي، فيكون في أعدل الأحوال. ولما شبّ عليه الصلاة والسلام كان يتجر، وكان شريكه السائببن أبي السائب. وذهب بالتجارة لخديجة ــــ رضي الله عنها ــــ إلى الشام على جُعْل يأخذه. ولما شرفت خديجة بزواجه، وكانت ذات يسار، عمل في مالها وكان يأكل من نتيجة عمله. وحقق الله ما امتنّ عليه به في سورة الضحى بقوله جلّ ذكره: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى(6) وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى(7) وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ
مَن نَّشَآء مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52).
سيرته في قومه قبل البعثة كان عليه الصلاة والسلام أحسن قومه خُلقاً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدَهم عن الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى كان أفضلَ قومه مروءةً، وأكرمَهم مخالطة، وخيرهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدَقهم حديثاً، فسمّوه الأمين لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة الحميدة، والفعال السديدة من الحلم، والصبر، والشكر، والعدل، والتواضع، والعفّة، والجود، والشجاعة، والحياء. حتى شهد له بذلك ألدُّ أعدائه النضربن الحارث من بني عبد الدار حيث يقول: قد كان محمد فيكم غلاماً حَدَثاً، أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانةً، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشَّيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر، لا والله ما هو بساحر. قال ذلك في معرض الاتفاق على ما يقولونه للعرب الذين يحضرون الموسم حتى يكونوا متفقين على قول مقبول يقولونه. ولما سأل هِرَقْلُ ملك الروم أبا سفيان قائلاً: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدعَ الكذب على الناس ويكذبَ على الله، ورد ذلك في أول صحيح البخاري.
وقد حفظه الله في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء شرعه الشريف بضدها وبُغِّضَتْ إليه الأوثان بغضاً شديداً حتى ما كان يحضر لها احتفالاً أو عيداً مما يقوم به عُبَّادُها. وقال عليه الصلاة والسلام: «لما نشأتُ بُغِّضَتْ إليّ الأوثان، وبُغِّض إليّ الشعر، ولم أهمّ بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد من ذلك. ثم ما هممتُ بسوء بعدهما حتى أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معي: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسْمُر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئتُ أول دارٍ من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك، فضرب الله على أذنيَّ فنمت فما أيقظني إلا مسّ الشمس ولم أقضِ شيئاً، ثم عراني مرة أخرى مثل ذلك». وكان عليه الصلاة والسلام لا يأكل ما ذبح على النصب وحرّم شرب الخمر على نفسه مع شيوعه في قومه شيوعاً عظيماً، وذلك كله من الصفات التي يُحَلِّي الله بها أنبياءه ليكونوا على تمام الاستعداد لتلقّي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوّة وبعدها، أما قبل النبوة فليتأهلوا للأمر العظيم الذي سيُسند إليهم، وأمَّا بعدها فليكونوا قدوة لأممهم. عليهم من الله أفضل الصلوات وأتمّ التسليمات.