وأما شبهتهم الثانية :
فهي ما رواه الإمام البيهقي عن عون بن عبد الله عن أبيه قال : " ما مات رسول الله صلـى الله عليه وسلم حتى كتب – وفي رواية : حتى قرأ وكتب – ".
والجواب عن هذه الشبهة أن الحديث ضعيف ، فقد قال الإمام البيهقي نفسه : " ..فهذا حديث منقطع ، وفي رواته جماعة من الضعفاء والمجهولين " . وقال الإمام الطبراني : " هذا حديث منكر ، وقال أبو عقيل : ضعيف " . والحديث ذكره الإمام السيوطي في الموضوعات .
ومن استدلالاتهم على نفي أمّيّته :
ما ذكروه أن العباس بن عبدالمطلب قال عندما سأله اليهودي : هل كتب النبي صلـى الله عليه وسلم بيده؟ فقال : فأردت أن أقول نعم ، فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويردّ علي، فقلت: لا يكتب ، فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود " .
وما ذكروه يتضمّن تدليساً فاحشاً ، وكذباً واضحاً ، يتّضح عند العودة إلى الرواية في مصادرها ، فقد روى هذه القصة البيهقي في " دلائل النبوة "، وذكرها ابن كثير في " البداية والنهاية " بسندها ، وموضع التدليس عند قوله : " فقال الحبر اليهودي : هل كتب بيده ؟ ، قال العباس : فظننت أنه خير له أن يكتب بيده ، فأردت أن أقولها ، ثم ذكرت مكان أبي سفيان أنه مكذبي ورادٌّ عليّ ، فقلت : لا يكتب . فوثب الحبر وترك رداءه وقال : ذبحت يهود وقتلت يهود " ، وبهذا يظهر أن أميّة النبي صلـى الله عليه وسلم كانت أمراً مشتهراً يعرفها القاصي والداني من قومه .
ثم ننتقل إلى دليل آخر من أدلتهم ، وهو :
الحديث الذي رواه ابن ماجة بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلـى الله عليه وسلم قال: ( رأيت ليلة أسرى بي على باب الجنة مكتوباً : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر ، فقلت : يا جبريل ، ما بال القرض أفضل من الصدقة ؟ . قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة ) ، قالوا : والقدرة على القراءة فرع الكتابة .
لكن ما استدلوا به لا يصلح للاحتجاج ، لأن الحديث ضعيف جدا ، وآفته خالد بن يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ، قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب : " ضعيف مع كونه كان فقيها ، وقد اتهمه يحي بن معين " . وسئل عنه أبو زرعة فقال : " يروي أحاديث مناكير " .
ولئن صح الحديث ، فليس فيه أن النبي صلـى الله عليه وسلم باشر القراءة بنفسه ، بل واضحٌ من سياق الحديث أن جبريل
عليه السلام كان بصحبته في الجنة ، ثم إن حادثة الإسراء والمعراج في
جملتها أمرٌ خارق للعادة ، لا يُقاس الواقع به ، فكيف يتعجّب مع هذا الأمر
الخارق العظيم أن يقرأ النبي صلـى الله عليه وسلم بضع
كلمات مكتوبة على باب الجنّة ؟ ، وإذا كانت القراءة تلك حاصلة منه في
العالم العلويّ ، وفي مشهد من مشاهد الآخرة – حيث رأى الجنة - ، فمن الذي
قال إنه صلـى الله عليه وسلم سيكون يوم القيامة على أميّته !! .
ومن المرويّات التي استدل بها المستشرقون :
ما جاء في صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلـى الله عليه وسلم : ( الدجال ممسوح العين ، مكتوب بين عينيه : كافر ، ثم تهجاها : ك ف ر ) .
والجواب عن ذلك أن نقول : إن تهجّي الكلمات يشمل نوعين : تهجي الكلمات
المسموعة ، وهذا أمر يشترك فيه المتعلم والأميِّ على السواء ، و تهجّي
الكلمات المكتوبة ، وهذا لا يقدر عليه إلا من كان يحسن القراءة ، وإذا كان
الأمر كذلك فليس في الحديث دلالة على معرفة النبي صلـى الله عليه وسلم للقراءة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نطق الكلمة ثم تهجّاها .
وختاماً ، فإن ما ذكره المستشرقون ومن تبعهم من محاولات للتشكيك في أمّيّة النبي صلـى الله عليه وسلم
لا يصمد أمام حقيقة هامة ، وهي أن أهل مكة الذين عاشوا معه وعلموا أخباره
، وعرفوا مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته ، قد أقرّوا جميعا بأميّته ، والله
الموفّق .
إسلام ويب